الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **
فيها توفي الملك الصالح أبو الفتح اسماعيل ابن السلطان نور الدين محمود بن زنكي ختنه أبوه فزينت دمشق وعمل وقتاً باهراً ثم مات أبوه بعد ختانه بأيام فأوصى له بالسلطنة فلم يتم له ذلك وبقيت له حلب وكان شاباً ديناً عاقلاً محبباً إلى أهل حلب إلى الغابة بحيث إنهم قاتلوا صلاح الدين قتال الموت لما جاء ليتملكها وما تركوا شيئاً من مجهودهم ولما توفي أقاموا عليه المآتم وبالغرا في النوح والبكاء عليه وفرشوا الرماد في الطرق وكان عمره تسع عشرة سنة وأوصى بحلب ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود فجاء وتملكها. وفيها توفي كمال الدين بن الأنباري العبد الصالح أبو البركات عبد الرحمن بن محمد. كان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو وتفقه في مذهب الإمام الشافعي بالمدرسة النظامية وتصدرلإقراء النحوواللغة وأخذ اللغة عن أبي منصور بن الجواليقي والنحو عن أبي السعادات هبة الله بن السجزي الآتي ذكر فضله - إن شاء الله تعالى - وأخذ عنه وانتفع بصحبته في علم الأدب واشتغل عليه خلق كثير وصاروا علماء وصنف في النحو كتاب أسرار العربية وهو كتاب سهل المأخذ كثير الفائدة وله كتاب الميزان في النحو أيضاً وكتاب في طبقات الأدباء جمع فيه بين المتقدمين والمتأخرين مع صغر حجمه وكتبه كلها نافعة وكان نفسه مباركاً ما قرأ عليه أحد إلا وتميز ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلاً بالعلم العبادة وترك الدنيا ومجالسة أهلها ولم يزل على سيرة حميدة زاهداً عابداً.وكانت ولادته في سنة ثلاث عشرة وخمس مائة ببغداد ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. والأنبار: بلدة قديمة على الفرات بينها ويين بغداد عشرة فراسخ. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الفتح عمر بن علي ابن الشيخ محمد بن حمويه الجويني الصوفي روى عن جده الفراوي وجماعة ونصبه نور الدين شيخ الشيوخ بالشام وكان وافر الحرمة.
فيها سار صلاح الدين فافتتح حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبصرة ونازل الموصل ولم يظفر بها لحصانتها ثم جاء رسول الخليفة يأمره بالترحل عنها فرحل عنها ورجع فأخذ عز الدين مسعود وعوضه بسنجار. وفيها لبس لباس الفتوة الناصر لدين الله من شيخ الفتوة عبد الجبار وابتهج بذلك وبقي يلبس الملوك. وفيها بعث صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بذلك - بالطاء المهملة والغين المعجمة والمثناة من فوق قبل الكاف ومن تحت بعدها ثم النون - على مملكة اليمن فدخلها وتسلمها من نواب أخيه. وفيها توفي أبو الكرم هبة الله بن علي الأنصاري الخزرجي المصري المعروف بالبوصيري كان أديباً كاتباً له سماعات عالية وروايات تفرد بها والحق الأصاغر بالأكابر في علو الإسناد ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله. سمع بقراءته جماعة من الكبار ورحل إليه الطلاب من الأمصار. قال الذهبي. وفيها توفي أحمد بن الرفاعي الزاهد القدوة أبو العباس بن علي بن يحيى كان أبوه قد نزل بالبطائح بالعراق بقرية أم عبيدة فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد فولدت له الشيخ أحمد في سنة خمس مائة وتفقه قليلاً على مذهب الشافعي وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة والذل والانكسار والارزاء على نفسه وسلامة الباطن. ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء وقد كثر الزغل فيهم وتحدرت لهم أحوال شيطانية من دخول النيران والركوب على السباع واللعب بالحيات وهذا ما عرفه الشيخ والأصلحاء أصحابه - فنعوذ بالله من الشيطان. قلت: هذه ترجمة الذهبي عليه في كتابه الموسوم بالعبر ولم يزد على هذا وهذا من العجائب في اقتصاره على هذا في ذكر شيخ الشيوخ الذي ملأت شهرته بالمشارق والمغارب تاج العارفين وإمام المعرفين ذي الأنوار الزاهرة والكرامات القاهرة والمقامات العلية والأحوال السنية والبركات العامة والفضائل الشهيرة بين الخاصة والعامة: أحمد بن أبي الحسن الرفاعي. وقد ذكرت شيئاً من كراماته ومحاسنه في كتابي الموسوم بروض الرياحين وفي كتاب الموسوم بالأطراف وهو كما ترجم عليه بعض العلماء الفضلاء المعتقدين في المشايخ والفقراء حيث قال فيه: هو من أجل العارفين وعظماء المحققين وصدور المقربين صاحب المقامات العلية والأحوال السنية والأفعال الخارقة. والأنفاس الصادقة والفتح المؤنق والكشف المشرق والقلب الأنور والسر الأظهر والقدر الأكبر والمعارف الباهرة والحقائق الظاهرة واللطائف الشريفة والهمم المنيفة والقدم الراسخ في التصريف الناقد والباع الطويل في أحكام الولاية خرق الله على يديه العوائد وقلب له الأعيان وأظهر العجائب فله مجلس القرب في الحضرة الشريفة ورفيع المقام والقبول العظيم عند الخاص والعام عطرت بذكره الآفاق والأقطار ولاح منه نور الفلاح واستطار صيته في الوجود استطارة النار بالرياح.قلت: ومن كراماته ما روى ابن أخته الشيخ الجليل أبو الحسن علي قال: كنت يوماً جالساً عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد رضي الله تعالى عنه وليس فيها غيره وسمعت عنده حساً فنظرت فإذا عنده رجل ما رأيته قبل فتحدثا طويلاً ثم خرج الرجل من كوة في حائط الخلوة ومر في الهوى كالبرق الخاطف فدخلت على خالي وقلت له: من الرجل فقال له: أو رأيته.قلت: نعم قال: هو الرجل الذي يحفظ الله - عز وجل - به قطر البحر المحيط وهو أحد الأربعة الخواص إلا أنه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم. فقلت له: يا سيدي ما سبب هجره قال: إنه مقيم بجزيرة في البحر المحيط ومنذ ثلاث ليال أمطرت جزيرته حتى سالت أوديتها فخطر في نفسه: لو كان هذا المطر في العمران ثم استغفر الله تعالى فهجر بسبب اعتراضه. فقلت له: أعلمته قال: لا إني استحييت منه فقلت له: لو أذنت لي لأعلمته فقال: أو تفعل ذلك قلت: نعم فقال: رنق فرنقت ثم سمعت صوتاً: يا علي ارفع رأسك فرفعت رأسي من رنقي فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط فتحيرت في أمري وقمت أمشي فيها فإذا بذلك الرجل فسلمت عليه وأخبرته فقال: ناشدتك الله ألا فعلت ما أقول لك قلت: نعم قال: ضع خرقتي في عنقي واسحبني على وجهي وناد علي هذا جزاء من تعرض على الله سبحانه. قال: فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه وإذا هاتف يقول: يا علي دعه فقد ضجت عليه ملائكة السماء باكية عليه وسائلة فيه وقد رضي عنه. قال: فأغمي علي ساعة ثم سري عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته. والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. قلت وقد اقتصرت على ما يسمع من كراماته في هذه القضية الفردة من بين ما لا يحصى ولا يستطيع من رام ذلك عده قال الإمام ابن خلكان: كان شافعي المذهب أصله من العرب وسكن في البطائح في قرية يقال لها: أم عبيدة وانضم إليه خلق عظيم وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالبطائحية والرفاعية من الفقراء منسوبة إليه.قال: ولأتباعه أحوال عجيبة في الحيات والنزول في التنانير وهي تضطرم بالنار فيطفئونها ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود ومثل هذا وأشباهه ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى ويقومون بكفاية الكل منهم وأمورهم مشهورة مستفيضة فلا حاجة إلى الإطالة. وذكر أصحابه وأتباعه ذكراً جميلاً يدل على حسن اعتقاده في الفقراء من حيث الجملة وحمل أحوالهم على السداد خلافاً لما قدمته عن الذهبي من الطعن فيهم وسوء الاعتقاد. قال ابن خلكان: وكان للشيخ أحمد - على ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة - شعر فمنه على ما قيل: إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم أنوح كما ناح الحمام المطوق وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى وتحتي بحار للهوى تتدفق سلوا أم عمر وكيف بات أسيرها تفك الأسارى دونه وهو موثق فلا هو مقتول ففي القتل راحة ولا هو ممنون عليه فيطاق قال: ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بأم عبيدة وهو في عشر السبعين. والرفاعي بكسر الراء نسبة إلى رجل من العرب يقال له رفاعة قال: هكذا نقلته من خط بعض أهل بيته بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الهاء دال مهملة - وهي عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط وبصرة ولها في العراق شهرة. انتهى. قلت: وذكر غيره أن الأبيات المذكورة سمعها الشيخ سيدي أحمد المذكور من القوال وكانت سبب موته. وفي مناقبه وما اتصف به من المحاسن والآداب والكرامات العظام مصنف لبعض الأئمة الأعلام وهو السيد الجليل المعروف بابن عبد المحسن الواسطي. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ محدث الأندلس ومؤرخها ومسندها أبو القاسم بن بشكوال خلف بن عبد الملك الخزرجي الأنصاري القرطبي. كان من علماء الأندلس وله التصانيف المفيدة منها كتاب الصلة الذي جعله ذيلاً على تاريخ علماء الأندلس تصنيف القاضي أبي الوليد عبدالله بن محمد المعروف بابن الفرضي وقد جمع فيه خلقاً كثيراً وله كتاب صغير في أحوال الأندلس - وما أقصر فيه - وكتاب الغوامض والمبهمات وذكر فيه من جاء ذكره مبهماً في الحديث فعينه ونسج فيه على منوال الخطيب البغدادي الذي وضعه على هذا الأسلوب وجزء لطيف ذكر فيه من روى الموطأ عن أنى بن مالك - كذا في الأصل الذي وقفت عليه. من تاريخ ابن خلكان عن أنى بن مالك - ولم يقل: مالك بن أنس فإن أراد رواة الموطأ عن أنس بن مالك الصحابي فهو صحيح. وقال: ورتب أسماءهم على حروف المعجم فبلغت عدتهم ثلاثاً وسبعين رجلاً. ومجلد لطيف سماه: كتاب المستعين بالله تعالى عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات والدعوات وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات وله غير ذلك من المصنفات. وفيها توفي خطيب الموصل أبو الفضل عبدالله بن أحمد الطوسي ثم البغدادي. قال ابن النجار: قرأ الفقه والأصول على الكبار وأبي بكر الشاشي والأدب على أبي زكريا التبريزي وولي خطابة الموصل زماناً وتفرد في الدنيا وقصده الرحالون.وفيها توفي الفقيه العلامة أبو المعالي مسعود بن محمد النيسابوري تفقه على محمد ابن يحيى صاحب الغزالي وتأدب على أبيه وسمع من جماعة وبرع في الوعظ وحصل له القبول ببغداد ثم قدم دمشق ودرس بالمجاهدية والغزالية ثم خرج إلى حلب ودرس بالمدرستين اللتين بناهما نور الدين وأسد الدين ثم ذهب إلى همدان ودرس بها ثم عاد إلى دمشق ودرس بالغزالية وانتهت إليه رئاسة المذهب بدمشق وكان حسن الأخلاق قليل التصنع. مات في سلخ رمضان ودفن يوم العيد وكان عالماً صالحاً ورعاً صنف كتاب الهادي في الفقه - وهو مختصر نافع - لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى. فيها توفي بوري - بضم الموحدة وكسر الراء - ابن أيوب بن شاذي الملقب بتاج الملك أخو السلطان صلاح الدين وهو أصغر أولاد أبيه. قال ابن خلكان: كانت فيه فضيلة وله ديوان شعر فيه الغث والسمين ولكنه بالنسبة إلى مثله جيد ومما نقل عنه من الشعر: ياحياتي حين ترضى ومماتي حين تسخط آه من ورد على خديه بالمسك منقط بين جفنيك سلطان على ضعفي مسلط قد تصبرت وإن برح بي الشوق وأفرط فلعل الدهر يوماً بالتلاقي منك يغلط ومنه أيضاً: أيا حامل الرمح الشبيه بقده ويا شاهراً سيفاً حكى لحظة غضبا ضع الرمح واغمد ما سللت فربما قتلت وما حاولت طعناً ولا ضربا ومنه أيضاً: أقبل من أعشقه راكباً من جوانب الغور على أشهب فقلت: سبحانك يا ذا العلي أشرقت الشمس من الغرب قلت: وجميع أشعاره هذه ليس فيها شيء من الغث الذي ذكر عنه بل كلها من السمين الحسن المنبىء عن فضيلة اللسن.وكان موته من جراحه أصابته في مدينة حلب يوم حاصرها أخوه صلاح الدين وكانت طعنة في ركبتي. قال: العماد الأصبهاني في البرق الشامي: بينما صلاح الدين جالس في سماط قد أعده في المخيم ضيافة بعد الصلح وعماد الدين صاحب حلب إلى جانبه ونحن في أغبط عيش وأتم سرور إذ جاء الحاجب إلى صلاح الدين وأسر إليه بموت أخيه فلم يتغير عن حالته وأمر بتجهيزه ودفنه سراً وأعطى الضيافة حقها إلى آخرها. ويقال أنه كان يقول: ما أخذنا حلب رخيصة بقتل تاج الملك. وفيهل توفي قاضي زبيد الإمام الفاضل البارع المجود علي بن حسين السيري - بفتح السين المهملة وسكون المثناة من تحت وكسر الراء قرية مصيرة - بضم الميم وفتح الصاد المهملة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء - بمخلاف الساعد قافلاً من مكة. وكان مع فضله ورعاً نظيفاً تفقه على شيوخ زبيد وأجمع على تفضيله الموالف والمخالف ويقال إنه أجاب عن ألف مسألة وردت عليه من التعنت التي يمنحه به أهل زبيد على يد القاضي ابن النجاب. قال ابن سمرة في تاريخه ولقد سمعت من بعض المشايخ السادة بشواحط يعني في جبال اليمن مكاناً يذكر من بعض فضائله وكرمه ما يتعجب منه السامع ويقصر عن بلوغه الطامع مع ديانته وأمانته. وفيها وقيل بل في سنة ست كما تقدم توفي الإمام رضي الدين يونس الموصلي الشافعي.وفيها توفيت الشيخة الفاضلة تقية بنت غيث - بالغين المعجمة ثم المثناة من تحت ثم المثلثة - ابن علي السلمي الصوري.صبحت الحافظ أبا طاهر محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني - وكانت فاضلة ولها شعر جيد - ذكرها في بعض تعاليقه وأثنى عليه وكتب بخطه: عثرت في منزل سكناي فانجرح أخمصي فشقت وليدة في الدار خرقة من خمارها وعصبته فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها: لو وجدت السبيل جدت بخدي عوضاً من خمار تلك الوليدة كيف لي أن أقبل اليوم رجلاً سلكت دهرها الطريق الحميدة قال ابن خلكان: وحكى الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري أنها نظمت قصيدة تمدح بها الملك المظفر عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين - وكانت القصيدة خمرية - وصفت بها آلة المجلس وما يتعلق بالخمر فلما وقف عليها قال: الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمن صباها. فبلغها ذلك فنظمت قصيدة أخرى حربية وصفت فيها الحرب وما يتعلق بها أحسن وصف ثم سيرت بها إليه تقول: علمي بتلك كعلمي بهذه. وكان قصدها براءة ساحتها مما نسبها إليه في صباها. وفيها توفي أبو عبدالله محمد المعروف بالأبله البغدادي الشاعر المشهور أحد المتأخرين المجيدين جمع في شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان شعر كثير الوجود بأيدي الناس ذكره العماد الأصبهاني فقال: هو شاب ظريف يتزي بزي الجند رقيق أسلوب الشعر حلو الصناعة رائق البراعة عذب اللفظ أرق من النسيم السحري وأحسن من الوشي التستري وكل ما ينظمه ولو أنه يسير والمغنون يغنون برانقات أبياته فهم يتهافتون على نظمه المطرب تهافت الطير الحوم على عذب المشرب. ومن رقيق شعره: دعني أكايد لوعتي وأعاني ** أين الطليق من الأسير العاني آليت لا أدع الملام بعزتي ** من بعد ما أخذ الغرام عناني أولى تروض العاذلات وقد أرى ** روضات حسن في خدود حسان ولدي يلتمس السلو ولم يزل ** حي الصبابة ميت السلوان يا برق إن تجفو العقيق - وطالما ** أغنته عنك - سحائب الأجفان في قصيدة له طويلة وله من أخرى لئن وقرت يوماً بسمعي ملامة لهند فلا عقب الملامة في هند ولا وجدت عيني سبيلاً إلى البكا ولا بت في أصل الصبابة والوجد وبحت بما ألقى ورحت مقابلاً سماحة مجد الدين بالكفر والجحد فيها نازل صلاح الدين الكرك ونصب عليها المجانيق فجاءتها نجدات الفرنج فرأى أن حصارها يطول فسار وهجم نابلو فنهب وسبى. وفيها أخذ كحلان - بضم الكاف وسكون الحاء المهملة - وأخرج منه أهله وعقد في ولايته للشريف مهدي بن أسعد بن عبد الصمد الجوالي. وفيها توفي السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن القيسي صاحب المغرب كان أبوه قد جعل الأمر بعده لولده محمد وكان طياشاً شريباً للخمر فخلعه الموحدون واتفقوا على أبي يعقوب وكان حلو الكلام ومليح المفاكهة بصيراً باللغة وأيام الناس قوي المشاركة في الحديث والقرآن وغير ذلك. وقيل إنه كان يحفظ أحد الصحيحين وكان سخياً جواداً هماماً فقيهاً حافظاً لأن أباه هذبه وقرن به أكمل رجال الحرب والمعارف فنشأ في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء أولى التحقيق والإتقان وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم وكان جماعاً مناعاً ضابطاً بخراج مملكته عارفاً بسياسة رعيته وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب ويغيب حتى لا يكاد يحضر وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام وقد فوض الأمر إليهم لما علم من صلاحهم لذلك. والدنانير اليوسفية منسوبة إليه. فلما تمهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه دخل إلى جزيرة الأندلس فكشف مصالح دولته وتفقد أحوالها وفي صحبته مائة ألف فارس من المغرب أو قال: من العرب والموحدين ثم أخذ في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج - وكانوا قد استولوا عليها - فاتسعت مملكة الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية وفتح مدينة قفص ثم دخل جزيرة الأندلس في سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف وقصد غربي بلادها فحاصر العدو هنالك شهراً واصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة وكان قد استخلف ولده يعقوب وقيل: إنه لم يستخلف بل اتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تملكه فملكوا. وذكر بعض المؤرخين أنه افتتح الأندلس وغيرها وتهيأ له من ذلك ما لا يتهيأ لأبيه وهادن ملك صقلية على جزية تحملها وكان يملي أحاديث الجهاد بنفسه على الموحدين فتجهز لغزو النصارى واستنفر في سنة تسع وسبعين ودخل الأندلس ثم تكلموا في الرحيل فتسابق الجيش حتى بقي أبو يعقوب في قلة من الناس فانتهزت الفرنج الفرصة وخرجوا فحملوا على الناس فهزمزهم وأحاطت الفرنج بالمخيم فقتل على بابه طائفة من أعيان الجند وخلصوا إلى أبي يعقوب وطعن في بطنه ومات بعد أيام يسيرة في رجب وبايعوا ولده يعقوب. سنة احدى وثمانين وخمس مائة فيها نازل صلاح الدين الموصل وكانت قد سارت إلى خدمته ابنة الملك نور الدين محمود زوجة عز الدين - صاحب البلد - وخضعت له فردها خائبة وحصر الموصل فبذل أهلها نفوسهم وقاتلوا أشد قتال فندم وترحل عنهم لحصانتها ثم نزل على ميافارقين فأخذها بالأمان ثم رد إلى الموصل وحاصرها أيضاً ثم وقع الصلح على أن يخطبوا له وأن يكون صاحبها طوعه وأن يكون لصلاح الدين شهرزور وحصونها ثم رحل فمرض واشتد مرضه بحران حتى أرجفوا بموته وسقط شعر لحيته ورأسه.وفيها هاجت الفتنة العظيمة بين التركمان وبين الأكراد في الجزيرة وقتل من الفريقين خلق لا يحصون. وفيها توفي صدر الإسلام أبو الطاهر اسماعيل بن بكر المعروف بابن عوف الزهري الإسكندراني المالكي. تفقه على أبي بكر الطرطوسي وسمع منه ومن أبي عبدالله الرازي. برع في المذهب وتخرج به الأصحاب وقصده السلطان صلاح الدين وسمع منه الموطأ. وعاش ستاً وتسعين سنة. وفيها توفي البهلول محمد شمس الدين صاحب أذربيجان وعراق العجم ويقال: كان له خمسة آلاف مملوك.وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والأحوال الفاخرة والأنوار القاهرة والمقامات العالية والمناقب السامية والمواهب الجزيلة والأوصاف الجميلة والطور العالي في الحقائق والمعراج الرفيع في المعارج والترقي في درجات السابقين والسبق إلى منازل المقربين: حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنه - كان من أجلاء المشايخ العارفين وأعيان الصفوة المحققين أحد أركان هذا الشأن وعلم العلماء الأعيان صاحب التصريف النافذ في الوجود والقدم الراسخ وعظيم الفضل النابع من عين الوجود وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الشيخ أبو الحسن القرشي: إن أربعة من المشايخ يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء: الشيخ معروف الكرخي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ عقيل المنبجي والشيخ حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - انتهت إليه رئاسة هذا الأمر علماً وحالاً وزهداً واجلالاً تزكى في تربيته كثير من المريدين بالرياضات وتخرج بصحبته غير واحد من أهل المقامات وتلمذ له جماعة كثيرة من أصحاب الأحوال والكرامات وأشار إليه المشايخ والعلماء وغيرهم بالتبجيل وانتهى إليه عالم عظيم ونال العطاء الجزيل. ومن كلامه رضي الله عنه: قيمة القشور بلبابها وقيمة الرجال بألبابها وعز العبيد بأربابها وفخر المحبة بأحبابها. ثم قال: آثار المحبة إذا بدت أماتت قوماً وأحيت أسراراً ونفت أشراراً وأنارت أسراراً. ثم أنشد: وإذا الرياح - مع العشي تناوحت أسهرن حاسده وهجن غيورا وأمتن ذا بوجود وجد دائم وأقمن ذا وكشفن عنه ستورا ومنه المحبة تعلق القلب بين الهيبة والأنس وهي سمة الطائفة وعنوان الطريقة ووسيلة إلى رؤية المحبوب وهيمان إلى لقاء المطلوب. وكان رضي الله تعالى عنه يتمثل بهذه الأبيات: مواجيد حق أوجد الحق كلها وإن عجزت عنها فهوم الأكابر وما الحب إلا خطرة ثم نظرة ينشي لهيباً بين تلك السرائر إذا سكن السر السريرة ضوعفت ثلاثة أحوال لأهل البصائر فحال بعيد السر عن كنه وجده ويحضره للشوق في حال حائر حاول به رمت ذرى السر وانثنت إلى منظراً فناه عن كل ناظر قلت هكذا في الاصل ثلاثة أحوال والمفسر منها حالان دون الثلاث.وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات وعجائب الآيات ما يذهل العقول وذكر اليسير منه يطول. من ذلك ما حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال: سافرت مرة من اليمن في البحر المالح فلما توسطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كل جانب وانكسرت بنا السفينة فنجوت على لوح منها فألقاني إلى جزيرة فطفت فيها فلم أر فيها أحداً وإذا هي كثيرة الخيرات. رأيت فيها مسجداً فدخلته فإذا فيه أربعة نفر فسلمت عليهم فردوا علي السلام وسألوني عن قصتي فأخبرتهم وجلست عندهم بقية يومي ذلك فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيماً. فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني فقاموا يبادرون إلى السلام عليه فتقدم وصلى بهم العشاء ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إلهي لا أجد لي في سواك مطمعاً ولا إلى غيرك منتجعاً قد أنخت ببابك ناظراً إلى حجابك متى تكشف لي عن تفريج الكربة والترقي إلى مجلس القرية وقد أوثقت نفسي عن السرور بك فوسمتها بذكرك ولي فيها كوامن أفراح ترتاح إليها صبابات أشواقي ولي معك أحوال سيكشفها اللقاء يا حبيب التائبين ويا سرور العارفين ويا قرة عين العابدين ويا أنس المنفردين ويا حرز اللاجين ويا ظهر المنقطعين ويا من حنت إليه قلوب الصديقين ويا من أنست به أفئدة المحبين وعليه عكفت همة الخاشعين.ثم بكى بكاء شديداً ورأيت الأنوار قد حفت بهم وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول: سير المحب إلى المحبوب إعجال والقلب فيه من الأحوال بلبال أطوي المهامة من قفر على قدم إليك يدفعني سهل وأجبال فقال ولي أولئك النفر: اتبع الشيخ فتبعته وكانت الأرض برها وبحرها وسهلها وجبلها يطوي تحت أقدامنا طياً. كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول: يا رب حيوة كن لحيوة وإذا نحن بحران في أسرع وقت فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح.سكن حران واستوطنها إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن زكريا المدرس في الشويرا: بضم الشين المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفتح الراء من بلاد اليمن.توفي وله ولد خلفه يفضل عليه في العلم خلفه في التدريس اسمه ابراهيم تفقه بأبيه المذكور وكان يختم في رمضان في كل يوم وليلة. وفيها توفي المهذب بن الدهان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي ذو الفنون. توفي بحمص وكان مدرسايها.وفيها توفي الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط أحد الاعلام مؤلف الأحكام الكبرى والصغرى والجمع بين الصحيحين وكتاب الغريبين في اللغة وكتاب الجمع بين الكتب الستة.نزل ببجاية وولي خطابتها وتوفي بها بعدما لحقه محنة من الدولة وكان مع جلالته في العلم قانعاً متعففاً موصوفاً بالصلاح والورع ولزوم السنة. وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة المشهور أبو زيد عبد الرحمن ابن الخطيب عبد الله ابن الخطيب أحمد الخثعمي السهيلي الأندلسي المالقي صاحب كتاب الروض الأنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و كتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الله تعالى في المنام ورؤية النبي عليه الصلاة والسلام ومسألة السر في أعور الدجال ومسائل كثيرة مفيدة وقال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه - في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجودك أن تقنط عاصياً الفضل أجزل والمواهب أوسع قلت: قوله: فإن الخير عندك أجمع: يحتاج إلى تأويل في إعرابه والإلزم أن يكون من الإقواء المعيب في الشعر فإن أجمع تأكيد للخير وهو منصوب فيكون منصوباً وله أشعار كثيرة نافية أخذ القراءة عن جماعة وروى عن ابن العربي والكبار وبرع في العربية والنحو واللغة وفي الأخبار والآثار. وكان ببلده يتصف بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتى نما خبره إلى صاحب مراكش فطلبه إليها وأحسن إليه وأقبل بوجه الإقبال عليه وأقام بها نحو ثلاثة أعوام وتوفي بها. والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها. ومالقة: بفتح الميم واللام والقاف مدينة كبيرة بالأندلس. وغلط السمعاني في قوله أنها بكسر اللام. وفيها توفي الحافظ أبو موسى محمد بن عمر المعروف بالمديني صاحب التصانيف.
قال العماد الكاتب: أجمع المنجمون في هذا العلم في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب السبعة في الميزان بطوفان الريح وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الماء والأزواد وتهيؤوا فلما كانمت الليلة التي عينها المنجمون بمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان والشموع توقد ولم يتحرك ولم تر ليلة مثلها في ركودها. وقال محمد بن القادسي: فرش الرماد في أسواق بغداد وعلقت المسوح يوم عاشوراء وناح أهل الكرخ وتعدى الأمر إلى سب الصحابة وكانوا يصيحون به ما بقي كتمان. وقالى غيره: وقعت فتنة ببغداد بين الرافضة والسنية قتل فيها خلق كثير وكان ذلك منسوباً إلى الصاحب الملقب بمجد الدين. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله المقدسي ثم المصري النحوي صاحب التصانيف روى عن طائفة وانتهى إليه علم العربية في زمانه وقصد من البلاد لتحقيقه وتبحره وكان يتحدث ملحوناً ويتبرم ممن يخاطبه بإعراب. ويحكى عنه حكايات في سذاجة الطبع يأخذ في كمه العنب مع الحطب والبيض فيقطر على رجله ماء العنب فيرفع رأسه ويقول: هذا من العجب يمطر مع الضحو.
|